-

مُحكم القيود (قصّة)

(اخر تعديل 2024-09-09 11:26:08 )

كتبها: منتظر نعمة

اليوم الأول دائماً ما يكونُ صعباً ، هذهِ العبارة التي ترددت الى مسامعي كثيراً في السابق لكني لم أشعرُ بحاجتها كما الأن . فالسجنُ الذي سأدخلهُ ليس بسجنً تقليدي بل هوه ”مُحكم القيود” صعب التخلص منهُ هكذا يحكى عنه وهكذا بدى لي من بعيد فقد كان المكان الوحيد في ارضً رملية ممتدة على مد البصر.

على أعتاب بوابات السجن صدحت أصوات صافرات الانذار وعلت أضاءات السجن متجهة صوبي ومعلنة عن قدوم زائرها الجديد. تملكتني أفكارً عديدة لم يكن بأستطاعتي ترتيبها فوجدتُ نفسي مستسلماً لما يجري ، ولما لا فلستُ الوحيد الذي سأرتاد هذا المكان ولن أكون الأخير.

عند بوابة الأستقبال سلمتُ كل ما يخصني من معدات ووثائق تثبت هويتي فساقني السجان الى ممرً طويل مكبل اليدين . وعلى طول الممر كنتُ أسترق النظر على الزنزانات التي نمر بها فازداد استغراباً كلما نظرت الى بوابة فأجدُ سجناء يعدون تجارباً وأخرين يدرّسون مجموعة من الاطفال وأخرين يكتبون بهدوء تام كانوا أشبهُ بأحرار الا إن شيً واحدً كان ينقصهم ليكونوا كذالك فعلاً.

وعند وصولي الى بوابة زنزانتي فتح السجان الملثم باب الزنزانة وأزال قيود يدي وأشار لي بالدخول ، فأحكم بعد دخولي غلق الباب وتوارى .

أستغرقت برهة من الزمن بتفحص زنزانتي وبنظرة خاطفة رأيت شخصاً في الزنزانة التي امامي يطالعني بأهتمام ، لم أرى ملامح وجهه فقد خيّم الظلام على الممر ولكني أستطعتُ تمييز سنه فقد بدى عجوزاً في أواخر الستين نظرت اليه مباشرةً وبادلته ما كان يفعل وسرعان ما قام واستلقى على سريره.

أستسلمت للنعاس فأستلقيت بدوري على السرير وسرعان ما غرقت بنومً عميق.

***********************************

في الصباح أستيقظتُ على صوت صافرات التنبيه ففُتحت الزنزانات توالياً خرج الجميع وبطابور من السجناء الذي لا يشبهُ أحدنا الاخر تحركنا بأتجاه واحد صوب مكانً فسيح فأستطعت أن أفهم اننا على وشك مقابلة مأمور السجن.

وما أن وصلنا وأصطففنا بتنظيم خرج من الباب أمامنا رجل قصير القامة بوجه منزعج و شاربً خشن محاط بأشخاص ملثمين ، وما أن وصل الينا حتى حدجنا بأكتراث فقال بعد برهة:

  • أنتم هنا في سجنً فريدً من نوعه ، كل شيء سيتغير بعد الان ، ولن يستطيع احدً منكم الهرب فعلى الرغم من أن طرق الهروب تبدوا وافرة وعديدة الى انهُ

”محكم القيود ”

تفحصنا بأهتمام وتحرك مسرعاً الى حيث الغرفة التي أتى منها

فتحركنا بطابور ثابت كما كنا.

عند ذالك همس لي شخص:

  • اليوم الاول دائماً ما يكون صعب ، لكنك ستتعود .

نظرت خلفي فأذا به رجل قارب الثمانين مرتب الشعر ملون العينين يستقبل وجهي بأبتسامة غير مريحة فقلت لهُ على مضض:

  • فعلاً ، أنا فقط لم اتعود على نظام السجن بعد.
  • أتفهم ذالك منذُ مجيئك وأنا اراك تراقبُ كل شيً حولك
  • أأنت الذي كنت تنظر صوبي البارحة ..؟
  • نعم أستمتع برؤية النزلاء الجدد ، يذكرني هذا بأول يومً لي هنا كنتُ مثلك تماماً لا أعلم ما سيؤول اليه المصير . ولكن أتعلم ماذا منذ ان عرفت ما يجب عليّ فعله وانا ارى أن نظام السجن هو ضالتي
  • ضالتك …؟!
  • نعم فقد جعلنى أرى قيمة نفسي .
  • الم تحاول الهرب من هنا ؟
  • في البداية كنت أستثقل أوقاتي هنا وأشتاقُ لأيامي قبل السجن ، فكرت بالهرب مراراً وسنحت لي فرص عديدة لكني أرى نفسي هنا .
  • اذا كان كل السجناء يرون انفسهم هنا وينتمون الى المكان بأرادتهم فأنا لا أنتمي الى هنا وساشرع بالهرب .
  • أن الهرب يبدو سهلاً لكن صدقني هو اصعب مما تتوقع.

قالها بأبتسامة مخيفة وانحرف عن الطابور فتبعته بحماس.

لم اكن قد عرفت اسمه وبفضول مصطنع قلت لهُ:

  • لم اعرف اسمك ..؟

فأجاب وهو ينظر الى الامام بخطوات سريعة:

  • ليس مهمً ، هنا يعرف كل شخص بمهنته التي يجيدها

ثم نظر الي وقال:

  • ما هو عملك قبل المجيء هنا
  • معلم
  • ممتاز. سيكون مهامك هنا تدريس الاطفال.
  • اطفال ، لقد رأيت بعضهم وساورني الفضول لاعرف لماذا هم هنا
  • راق لبعض السجناء النظام هنا فاشركوا اطفالهم به ليكونوا جزءً منه في المستقبل.
  • وماذا ساعلمهم القراءة والكتابة ؟
  • هذهِ علوم سطحية يستطيع اي معلم تعليمها.
  • اذاً ماذا سأعلمهم ؟
  • النظام ، نظامنا الفريد من نوعه ، يقول المأمور إن نظامنا سيكون قريباً هوه النظام العالمي .
  • وكيف أعلمهم شيً لم اعلم عنه الكثير
  • سنملي عليك ما تقول لا تقلق ، لكن دعني أريك بعضً من تجاربنا

مررنا بباب كبير يعتليه نافذة زجاجية فوقفنا ننظر من خلالها رأيت مكان مهول بالاجهزة والمعدات واشخاص يعملون بنظام لم اعهده . فقال بتفاخر:

  • العلماء هنا على اعلى مستوى ، هنا يصنعون الدواء والامراض على حد سواء.

أستمر بالمشي فمررنا على باب لم يختلف عن سابقه كثيراً فقال هنا المكان المخصص لاعادة تدوير السجناء ، المأمور يرى أن ما من احدً هنا بدون فائدة حتى وان لم يكن مميزً في شيء ما سيستفاد من أعضاءهُ ويرمى المتبقي منه.

لم أستوعب ما قاله فنظرت من النافذة . رأيت أشلاءً تحمل واخرى ترمى ، بقايا انسان معلق من يدً واحدة ككبش نزع عنه الصوف كان اشبه بمصنع للموت .

احمر وجهي غضباً وتسارع نبضي حتى كاد يهّشم صدري فصرخت في وجهه:

  • انهم بشر مثلنا جميعاً ايها الوغد الذليل ، لماذا يسكتُ السجناء هنا على مثل هذه الانتهاكات .

فشددت قبضة يدي بقوة وشرعت بضربه والهرب مسرعاً الا أن ضربة لم احدد مصدرها أفقدتني توازني فهويت مغشياً على الارض.

***********************************

استيقظتُ في ليلة مغبرة ساكنة أشبه بليلتي الاولى فنظرت مباشرةً على الزنزانة التي امامي فرأيته جالساً كعادته يحدج بي وينتظر استيقاظي وحالما وقفت حتى قال:

  • ايها الابله انهُ نظام محكم لن يستطيع فئر مثلك أن يقف بوجهه

دنوت الى باب الزنزانة بسرعة واجبته بغضب:

  • لم يجعله كذالك سوى الاوغاد الاذلاء على شاكلتك ، فأنت سجين تدافع عن نظام يقيد حريتك ويستنزفك ويجعل منك فئر تجارب ، ويقتلك اذا قلت له غير ما يريد سماعه
  • اسمع لقد مر الكثير من مّن هم مثلك وارادوا أن يعيقوا تقدم هذا النظام لكنهم سكتوا للابد .
  • وهناك انظمة سكتت الى الابد ايضاً

ضحك باستهزاء وقال وأذا قمت بذالك ماذا ستجني ؟ ستكون بطلاً قومياً لمن ؟

السجناء يرغبون بذالك بمحض ارادتهم لم يجبرهم احد ، هم اختاروا ان يبقوا هنا رغم اتاحة الفرص للخروج من هنا.

  • انتم من تزرعون هذهِ الافكار فيهم ، هم لا يعرفون ان هناك حياة خلف هذهِ القضبان ، ولو عرفوا ذالك لما اختاروا ان يقتلوا وتؤخذ اعضاءهم .
  • وما نفع شخص لا يقوى على فعل شيً ولم يخدم النظام حتى الحيوان له فائدة تجنى منه .

قالها وارتمى على السرير بلا مبالاة

***********************************

اتممت الليل افكر فلم اقدر على النوم ، وعند الصباح لم يفتح باب زنزانتي كما الزنزانات الاخرى. وما هي الى دقائق حتى ترامى الى مسمعي خطوات اقدام كثيرة ، كان جلياً ان اعرف انهم قادمون لي فلم يكن سواي في زنزانته. فُتح باب الزنزانة فدخل المأمور وانصرف الاخرين.

اقترب مني بحذر وقال:

  • أتريد الخروج من هنا ؟

دبت الجملة الروح عندي فنهضت وانا أخفي ابتسامة فقلت له:

  • كيف ذالك
  • الباب مفتوح وباب السجن الخارجي ايضاً ، اخرج اذا اردت ، ولكن الى اين ستذهب فالجميع هنا والجميع سيأتون هنا .

تلاشت فرحتي مثلما يتلاشى الدخان واجبتهُ بعصبية:

  • أذا لم اقتلك انا حتماً سيقتلك شخص اخر ، وينتصر لهولاء المساكين
  • انت مخطئ لست انا من أسس هذا النظام ، انا واحد من العاملين كنت مثلك في يومً ما ووجدت نفسي هنا
  • ماذا وجدتم هنا وماذا ستكسبون من خدمة نظام لا تعرفون من أسسه ، انتم شرً من الدواب لا تعقلون ما يجري لكم .
  • ساتركك لترتاح ايها المعلم المخلص

انصرف وتركني بعصبية لم استطع السيطرة عليها ، كان بارداً لم يحمل وجهه اي ملامح ولم يكن كما رأيته في يومه الاول فقد كان وضيعاً ذليلاً في ذالك اليوم

***********************************

حملت الاوراق التي أعددتهم في غرفة المأمور ودخلت زنزانتي كان هناك اطفال يجلسون على الارض وينتظروني بتلهف ما أن وصلت حتى بدأت الدرس فقلت لهم

أنتم هنا في مكان فريدً من نوعه ، نظام مميز وقوي وستكونون جزءً منه في المستقبل.

…إنتهت…

بقلم الكاتب: منتظر عبدالرحيم نعمة / العراق.