من المتوقع أن يظل الدولار قويا مقابل معظم العملات الرئيسية حتى نهاية العام، وفقا لمسح أجرته وكالة رويترز لخبراء استراتيجيين في سوق الصرف الأجنبي، ويعتقد الخبراء أن الاقتصاد الأمريكي القوى ومكاسب عوائد سندات الخزانة طويلة الآجل والتي تعد من بين أعلى المعدلات في الدول المتقدمة سيستمران في المساهمة في مرونة الدولار.
وانتعش الدولار الأميركي بشكل مثير للإعجاب هذا العام، حيث ارتفع بنسبة تزيد عن 1% منذ بداية 2023 حتي نهاية سبتمبر، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى المخاوف بشأن الاستقرار الاقتصادي في الصين والنمو العالمي، ودفع هذا الأداء القوي المحللين إلى إعادة النظر في توقعاتهم السابقة بضعف الدولار على المدى القصير إلى المتوسط.
وفقًا للاستطلاع الذي أجرته رويترز في شهر سبتمبر، يعتقد 81% من المحللين أن الدولار لديه مجال أكبر للنمو، مما يشير إلى أن المخاطر تميل نحو مزيد من القوة، كما يروا أن الدولار القوي قد يستمر أكثر خلال الربع الرابع من العام.
تغير مشهد أسعار الفائدة
ولكن من الممكن أن تتغير التوقعات مع اقتراب العام المقبل، حيث تشير اجماع التوقعات بأن الدولار سيبدأ في الضعف قليلاً مقابل معظم العملات الرئيسية في سوق فوركس ومن المتوقع أن يتزامن هذا التغيير مع قيام البنك الاحتياطي الفيدرالي بتخفيض أسعار الفائدة فى الأشهر الستة إلي التسعة القادمة، وعند هذه النقطة من المرجح أن يضعف الدولار الأمريكي مرة أخرى.
يقول بنك HSBC أن الدولار سيتعزز بشكل جيد حتى عام 2024 نظرًا لضعف التوقعات الاقتصادية العالمية، وكتب استراتيجيون في بنك HSBC في تقرير أن العملة الأمريكية من المتوقع أن ترتفع حيث أن النمو المتعثر في أوروبا والصين يؤثر على معنويات المخاطرة ويدفع الطلب على الأصول المرتبطة بالاقتصاد الأمريكي.
وكتب الاستراتيجيون في تقريرهم: “لقد بدأ الدولار الملكي بالفعل في العودة، لكن عهده يمكن أن يستمر لفترة أطول، مع بدء تشديد السياسة النقدية فإن توقعات النمو العالمي المتعثرة من شأنها أن تفيد الدولار في مواجهة التقلبات الدورية”
وقد حفز انتعاش العملة الأمريكية المضاربين على الدولار إلى إعادة تقييم رهاناتهم على كل العملات الأجنبية الأخري، وحتى عندما تصبح التوقعات العالمية أكثر قتامة فإن الولايات المتحدة والدولار الأمريكي سيبدو أكثر جاذبية نسبيا.
ويتوقع البنك الآن انخفاض اليورو إلى 1.03 دولار في الربع الأول من عام 2024، مقارنة بتقدير سابق عند 1.15 دولار، وقد يتراجع سعر الين إلى 148 ينًا للدولار في نفس الفترة، وهو انقلاب ملحوظ عن سعره السابق البالغ 132 ينًا.
وكتب بنك HSBC أنه في ظل التوقعات الأكثر صعوبة لأوروبا والصين والاقتصادات الأخرى، يمكن أن تشهد الأسواق بشكل متزايد مخاطر سلبية على النمو العالمي ويتم تبنى الدولار على نطاق واسع بشكل أكبر.
لا يزال الدولار يتمتع بالكثير من القوة
هددت الصراعات السياسية في الولايات المتحدة مثل أزمة سقف الديون في الربيع وما تلا ذلك من خفض التصنيف الائتماني والمخاطر المتمثلة في إغلاق الحكومة، بإضعاف بريق الدولار، لكن قرار البنك الاحتياطي الفيدرالي الأخير بإبقاء أسعار الفائدة عند مستوى مرتفع عزز الدولار في أسواق الصرف الأجنبي.
ومع ذلك، تظل هناك حقيقة أساسية قائمة ألا وهي: أن الدولار يظل يشكل العمود الفقري للاقتصاد العالمي، إنها العملة التي تدور حولها جميع العملات الأخرى تقريبًا، وهي ملاذ العالم في أوقات الاضطرابات، حتى عندما تنبع تلك المشاكل من الولايات المتحدة نفسها.
علاوة على ذلك، كان النشاط النسبي للاقتصاد الأمريكي والسياسة النقدية المتشددة التي ينتهجها البنك الاحتياطي الفيدرالي سبباً في دفع قيمة الدولار إلى الأعلي مقابل معظم العملات الأخرى، ففي الربع الثالث من العام ارتفع مؤشر الدولار الأمريكي بنحو 2.8%.
ورغم انخفاض الدولار عن الذروة التي بلغها في أكتوبر الماضي عند أعلى مستوياته في 20 عام، فإنه يظل أعلى بنسبة تزيد على 40% عما كان عليه في عام 2011.
البنك الاحتياطي الفيدرالي والدولار
“الارتفاع لفترة أطول” هو ملخص وول ستريت لسياسة سعر الفائدة التي ينتهجها البنك الاحتياطي الفيدرالي، أشارت توقعات البنك الاحتياطي الفيدرالي الأخيرة إلى أنه لخفض التضخم إلى هدفه البالغ 2% قد يحتاج البنك الاحتياطي إلى رفع سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية إلى 5.625% من النطاق الحالي البالغ 5.25% إلى 5.50% بحلول نهاية هذا العام، وإلى الاحتفاظ بمعدلات أعلى من 5% في عام 2024.
وفي مؤتمر صحفي قال رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي “جيروم باول” إن البنك الاحتياطي سيظل “يعتمد على البيانات” في اتخاذ قراراته، ولكن إلى أن ينخفض التضخم فإنه سيفعل كل ما يلزم، وأضاف: “إذا جاء الاقتصاد أقوى من المتوقع، فهذا يعني أنه سيتعين علينا بذل المزيد من الجهد فيما يتعلق بالسياسة النقدية للعودة إلى 2% لمستويات التضخم”.
ونظرًا لأن أسعار الفائدة في الولايات المتحدة أعلى بكثير من أسعار معظم الدول الكبرى، ولأن الاقتصاد ينمو بقوة أكبر، فقد كانت سوق الأوراق المالية الأمريكية يسحب الأموال مما أدى بدوره إلى تعزيز قيمة الدولار.
الرياح المعاكسة والرياح الخلفية
بالنسبة للمستهلكين الأميركيين فإن الدولار ذو القيمة العالية يقلل من التضخم مما يتيح لهم شراء السلع المستوردة بأسعار أقل، وبالنسبة للمسافرين فقد يعني ذلك تكلفة سفر أرخص وأفضل في الدول التي انخفضت عملاتها مقابل الدولار.
بالنسبة للشركات الأمريكية متعددة الجنسيات فإن الدولار ذو القيمة العالية يشكل نعمة ونقمة، حيث تستفيد بعض أقسام الشركات وتتضرر أقسام أخرى.
وقد أعرب العشرات من رجال الأعمال الأمريكيين عن استيائهم مما يسمونه “الرياح المعاكسة” للإيرادات التي أطلقتها قوة الدولار، والتي تستنزف الأرباح الأجنبية عند تحويلها إلى العملة الأمريكية ويمكن أن تؤدي إلى ارتفاع أسعار منتجاتهم في الخارج، كان هذا موضوعًا رئيسيًا خلال تقارير أرباح الشركات مع محللي وول ستريت في عام 2022 وأوائل هذا العام.
ويظل الدولار ذو القيمة العالية يمثل مشكلة للشركات المتعددة الجنسيات، على سبيل المثال: في إعلان أرباح شركة أبل في أغسطس قال الرئيس التنفيذي “تيم كوك” إنه على الرغم من أن أداء الشركة كان جيدا للغاية في مجمله، إلا أنها استمرت في مواجهة بيئة اقتصادية كلية غير متكافئة، وفي يوليو قال المدير المالي لشركة بروكتر آند جامبل “أندريه شولتن”: “لا تزال أسعار صرف العملات الأجنبية تشكل رياحًا معاكسة، واستنادًا إلى المعدلات الحالية نتوقع الآن تأثيرًا بعد خصم الضرائب بقيمة 400 مليون دولار”.
التأثيرات العالمية
كان للنفط والدولار علاقة وثيقة ومثيرة للجدل، فخلال الصدمات النفطية في السبعينيات ارتفعت الأسعار وتدفقت مبالغ ضخمة من الأموال من الدول المستهلكة للنفط مثل الولايات المتحدة إلى منتجي النفط مثل المملكة العربية السعودية ثم عادت إلى الولايات المتحدة كاستثمارات.
ولكن لسنوات عديدة ساهم ارتفاع أسعار النفط في ارتفاع معدلات التضخم وتباطؤ الناتج الاقتصادي ما يسمي بالركود التضخمي في الولايات المتحدة، وقد أدى تدفق أموال النفط إلى تعزيز المكانة الدولية للدولار مع خفض قيمته في أسواق الصرف الأجنبي، على مدى عقود من الزمن، عندما ارتفعت أسعار النفط كان الدولار يميل إلى الانخفاض.
ولكن في تحول كبير يعود تاريخه تقريبًا إلى بداية حرب روسيا في أوكرانيا في أوائل عام 2022، كانت أسعار النفط والدولار يتحركان جنبًا إلى جنب، وهذه نتيجة مهمة توصلت إليها دراسة أجراها بنك التسويات الدولية.
وإذا استمر التغير في هذه العلاقة، فإن الارتفاع الأخير في أسعار الطاقة لن يضر بالدولار بل ربما يساعده، وربما يرجع ذلك جزئيا إلى أن طاقة الوقود الأحفوري أصبحت أقل أهمية للاقتصاد بكثير مما كانت عليه قبل 50 عاما، حتى لو كان ارتفاع أسعار البنزين مؤلما للمستهلكين ومزعجا في كفاح البنك الاحتياطي الفيدرالي لترويض التضخم، ولكن السبب الرئيسي هو أنه بفضل زيادة إنتاج النفط والغاز الطبيعي في حقول الصخر الزيتي، أصبحت الولايات المتحدة منذ عام 2019 مصدرًا صافيًا للطاقة، وهذا يعني أن عائدات الطاقة تعمل على تعزيز قيمة الدولار ولا تؤدي إلى إضعاف قيمته.
ولكن بالنسبة للبلدان التي تعتبر مستوردة صافية للطاقة فإن هذه ضربة مزدوجة، حيث يتم تسعير النفط عادة بالدولار، كما أن تحويل معظم العملات إلى الدولار أمر مكلف.